اثير الشمري

شهد العالم بعد ثورة المستعمرات الأمريكية والثورة الفرنسية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر تزايداً في الحراك والضغط الشعبي على الحكومات في شتى بقاع العالم؛ ادى هذا الضغط الى استرجاع الشعوب
لحقوقها التي أوغل السلطان الثيوقراطي والاستبدادي في انتهاكها، جاعلاً من إرادته فوق ارادة الشعب، وتجسد بكلام اشتهر على لسان لويس الرابع عشر: "انا الدولة، والدولة انا".

التحولات الثورية ونضوج الوعي الشعبي أدى الى تحول المعادلة بأن يكون الشعب هو مصدر السلطات بدلاً عن الملك أو السلطة الدينية.

ليس ذلك فقط؛ بل تعداها بان تكون مخرجات الدولة من تشريع، تنفيذ، وقضاء أن تكون مؤداها الشعب.

لم يكتفِ الأفراد بعدها في التكتل داخل تجمع الشعب، أو الأمة كما ذهب اليه جان جاك روسو؛ إذ فاقها الى تشكيل الجمعيات والنقابات النوعية التي اخذت على عاتقها مراعاة مصالح منتميها داخلياً، واستحصال الحقوق لهم من الدولة بمختلف سلطاتها، فضلاً عن أنها تمثل وجه من أوجه الضغط الشعبي.

إن ظهور هذه التشكيلات أدى بطريقة او باخرى الى شرعنة وجودهم كجماعات فاعلة داخل الشعب، وبوسائل الضغط التي تمتلكها التي اصبح الإذعان لمتطلباتها امراً لابد منه.
بالرغم من أن هذا الاذعان من قبل السلطات ناتج عن خوف تارة بسبب الاضراب او الاعتصام، والرغبة في محاباتهم لضمان بقاء المستجيب لأطول فترة ممكنة في الحكم او التمثيل النيابي تارة اخرى، خاصة بعدما استحصل حق المشاركة في الحياة السياسية لعامة الشعب وللنقابات خاصة كناخبين أو كاصحاب قرار.
العراق لم يكن بمعزل عن هذه المسيرة، فمع بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة المتمثلة بالنظام الملكي، اتجه اصحاب الصنائع والحرف والمهن إلى تشكيل النقابات والإتحادات التي لعبت دوراً في توجيه الحياة السياسية وضمان إستحصال حقوق منتميها، التي على إثرها بدات الدولة بإنتاج التشريعات التي عززت من موقف هذه التجمعات.

هذه التجمعات وإن كانت فاعلة في خطواتها الاولى، لكنها ما لبثت ان خبت نورها في مرحلتين:
الاولى: امام التنظيمات السياسية، اذ ان هذه التنظيمات استطاعت ان تتوغل لها وان تسيطر على اداراتها؛ الامر الذي هيأ الفرصة الى توجيه هذه التجمعات وفقاً لرؤية التنظيمات السياسية على اختلافها، والشواهد كثيرة.
الثانية: امام الدولة، اذ انها قلما شاركت في توجيه مسار الدولة الى غايات عامة لا يشترط فيها ان تمسهم خاصة، بالاضافة الى ضعفها العام الذي أدى في نهاية المطاف الى السيطرة عليها فعليا وتوجيهها الى الاهتمامات الداخلية فقط، ثم الى عدها من مؤسسات الدولة -موضوعياً- خاصة بعد حركة 1958.

بعد عام 2005 والأمل فيها بفسحة لهذه التجمعات، فقد استمرت خيبة الأمل بتدخل التنظيمات السياسية في السيطرة على هذه التجمعات، فضلاً عن انكفاءها على مراعاة المصالح الضيقة لإداراتها ومنتميها وان لم تستطع بلورة حتى غاياتها التي عقدت من أجلها حتى الان، بمعنى انها افرغت من مراعاة غاياتها شكلاً وموضوعاً.

لا شك أن اليسر الذي أنتجته التشريعات في تشكيل التجمعات غير الحكومية هو أمر جيد، لكنَّ هذا اليسر أدى الى توسعها في ما يفوق ال3000 جمعية وإتحاد ومنطمة، فضلا عن النقابات، لكنها افرغت من غاياتها بأن سمحت الدولة بتوسيع الاهداف، وبالتالي ضياع الجهود ضمن دوائر بلا هدف سامٍ وربما بأعداد لا تزيد عن العشر اشخاص.

ليس ذلك فحسب، إذ أن الدستور العراقي سمح بانشاء مؤسسات لفئات فاعلة اجتماعياً تحت عنوان "المؤسسات المستقلة" وضمها تحت عنوان الدولة باداراتها ومخصصاتها وامتيازاتها، الامر الذي جعل هذه الفئات متعلقة بحبائل الدولة وهي التي من المفترض أن تكون عاملاً اساسياً من عوامل الضغط الشعبي على الدولة لمصلحتها اولاً ولمصلحة عامة الشعب ثانياً؛بل وحتى لمصلحة استمرارية الدولة والنظام الديموقراطي.

عليه، لا مناص من تحرير رقبة هذه المؤسسات من هيمنة الدولة فضلاً عن التنظيمات السياسة، وكذلك الحال في تقليصها باشتراط الهدف السامي والعدد الكافي، لتكون فعلاً كما هي فلسفتها الحقة في انها ملجأ الشعب في ضغطه على الدولة باستحصال حقوقه، ومعينة للدولة في خط مسارها كذلك، على اعتبار انها مرآة الشعب.