علي السوداني


يكاد المشهد يكتمل والرؤيا تتّضح والعبارة لا تضيق والسطر يجري بمستَفَزٍّ له ، أو هكذا خيّل لي كسكرةٍ ممكنةٍ من غير خمرة . 
مساحة الظلام في المنظر أزيد من مساحة النور . أستطيع القول أنَّ المدينة نائمة . 
أنا أحبُّ هذا . شرفتي دافئة وعندي ضبّة سكائر ووشل زجاجة كرمية الهوى والنبع . 
قبل أوّل البارحة ، قبضتُ بيميني على علبة الدخان القاتلة وهشّمتها تهشيماً لا قيامة لها من بعده . كانت ثمة صورة فوتوغرافية شديدة الوضوح مطبوعة فوق وجه الباكيت . 
بطل الصورة طفلٌ حلوٌ مثل نؤاس الذي مثله الولد الزعلان عصرية اليوم عليّ الثاني ، الذي كان يعبئ بفمه مصّاصة بخّاخ من الصنف الذي يستعمله مقطوعو النفَس . 
ألرسمة تكاد تتكلم والطفل الحلو يريد أن يصيح بك : 
إطفىء سيجارتك يا بابا قبل أن تنطفىء أنفاسي . 
على الوجه الثاني من الباكيت ثمة من يحذّركَ بأنَّ جسدك قد يُكرَهْ على استضافة وجع السرطان الأكول ، إذا ما استمررتَ على شفط مدخنة التبغ هذه ، توطئةً لموتٍ قاسٍ عبثيٍّ غيرِ رحيم . لم تدم الثورة طويلاً حتى عدت الى سجائري المهروسة باحثاً عن واحدةٍ لم ينكسر ظهرها بقوة أصابعي وشتائمي !! 
في منظر الليلة ، انزرعتْ بناية مدرسة ابتدائية عتيقة بخاصرة جبل اللويبدة العمّوني الحميم  من صوب كراج العبدلي وعطر مشفى كباب الحاج سكّرية . 
إسم المدرسة هو " بلاط الشهداء " وهذا المسمى الموجع ، أعادني فوراً إلى مدرسة كانت قائمة ببغداد الجميلة وتشيل واجهتها الإسم نفسه ، قبل أن يزورها صاروخ إيراني رجيم ويهرس أطفالها وطابوقها وحروفها الغضّة وقراءتها الخلدونية الطيبة .
عند أول بيبان الظهيرة ، شاهدت حشداً قليلاً من عمال الفوسفات يصنعون تظاهرة احتجاج أمام بناية مدهشة . في الواقع لم تكن مظاهرة بقدر ما كانت رقصة جماعية مؤلمة تدبك على وقع أغنيات حماسية . لا أظنهم قد استعانوا بطبالين وزمارين من الصنف المحترف الذي قد يكلفهم بعض دنانير عزيزات . عرفت ذلك بسبب العزف السيء والإيقاع المرتبك الذي جعل أرجل الراقصين بفوضى تشبه عشوائيات البيوت المنثورة قرب سكة حديد صدئة .
أحتاج اللحظةَ الى سطرٍ أخير كي أُنهي الحكاية . 
سأكتب أنني لستُ على ما أروم وأشتهي .
سأمحو السطر البائد وأُحلُّ محله قولَ أنني مثل روزنامة سنة تنطر سقوط ورقة أخيرة .