د. باهرة الشيخلي



الاغتيالات هي الخبز اليومي للميليشيات ولأصحاب البنادق المؤجرة، ولا يظن أحد أنها توقفت في بلاد الرافدين، فما إن تنخفض معدلات القتل في يوم حتى تعود مرة أخرى.
الصراع في أوله
قابل العراقيون في جنوب العراق موجة الاغتيالات الجديدة، التي نفذتها أحزاب السلطة وميليشياتها، ضد المتظاهرين ونشطاء التظاهرات والاعتصامات المستمرة، منذ الأول من أكتوبر الماضي إلى الآن، بتهديم مقرات تلك الأحزاب والميليشيات في مناطقهم وإعلان محافظاتهم نظيفة من تلك الأحزاب والميليشيات.
أثبتت هذه العملية، التي نفذها منتفضو الجنوب أن أحزاب السلطة، في الحقيقة، هي قيادات فقط من دون قواعد، بحيث لم يتصد أحد في جميع المناطق الجنوبية للدفاع عن تلك الأحزاب والميليشيات.
الاغتيالات هي الخبز اليومي للميليشيات ولأصحاب البنادق المؤجرة، ولا يظن أحد أنها توقفت في بلاد الرافدين، فما إن تنخفض معدلات القتل في يوم حتى تعود، مرة أخرى، إلى سابق عهدها، حتى أطلق المراقبون على مدينة الرشيد مصطلح “متحف الجثث”!
ومع الحراك الوطني بقيادة شهداء العراق، الذي بدأ في أكتوبر 2019 انبثق نهر الدم واستمر إلى اليوم وسيبقى ما بقيت فرق الموت وأحزاب القتلة.
ركزت الميليشيات الولائية اغتيالاتها في مدن البصرة والناصرية، في سلسلة من القتل المجاني، برغم أن هاتين المنطقتين أصابهما نصيب استثنائي من الظلم والإهمال والعديد من الشهداء.
إن موجة الاغتيالات الجديدة، التي طالت الناشطين السياسيين في المناطق الجنوبية، مؤخرا، كانت رسائل وجهتها إلى رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي القوى التي تحدث زعماؤها، أكثر من مرة، أنهم لن يتساهلوا مع كل من ينوي تحييد قدرتهم على التحرك وممارسة سلطتهم.
ويشكل استهداف النشطاء السياسيين، وبخاصة أولئك الذين لهم مواقف مغايرة أو متصادمة مع مواقف العديد من القوى السياسية العراقية، وبخاصة الأحزاب المسيطرة على الميليشيات المسلحة، في حد ذاته، استهدافا لسيادة الدولة العراقية من جهة، ومن جهة أخرى يشكل تهديدا حقيقيا للنسيج الوطني والأمن المجتمعي، بنحو عام، وسيضعف استمرار مثل هذه الوضعية الدولة العراقية ويحول دون قدرتها على أداء واجبها الوطني والسيادي في جميع المجالات، كما يرى المحلل السياسي عبدالله الأيوبي.
تحدث رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، أكثر من مرة، عن عزمه ضبط السلاح خارج سلطة الدولة والتصدي لآفة الفساد، التي تنخر هيكل الدولة العراقية، لكنه، بعد أشهر عدة من توليه المنصب، اصطدم بالواقع الحقيقي للوضع السياسي والأمني في العراق، فمن مراجعة بسيطة لأداء الحكومات، التي أعقبت الاحتلال، نجد أن أيا منها لم تستطع إيجاد مخرج لهذا الوضع الشائك والمعقد، فسلطة الدولة العراقية ليست في وضع يمكنها من معالجة مثل هذا الملف الخطير، الذي يثقل كاهل أي حكومة عراقية، مهما حاولت النأي بنفسها عن هذه الحقيقة.
وترتفع في الشارع العراقي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الاتهامات للميليشيات المرتبطة بإيران والمعروفة بـ”الولائية” بالوقوف وراء عمليات الاغتيال، وهذه الميليشيات هي مجموعة من الفصائل المسلحة المعروفة في البلاد والتي لديها مقرات وتعامل معاملة الأجهزة النظامية مثل الجيش والشرطة، كونها منضوية في أطر وتسميات متنوعة تحت رئاسة الوزراء، وبات لها قانون تعمل في ضوئه، وسبق أن اتهمت هذه الميليشيات بعمليات تصفية المحتجين في ساحة التحرير ببغداد وميادين الاحتجاج في مدن وسط وجنوب البلاد، كما أنها متهمة باغتيال العديد من الناشطين والصحافيين.
لكن القسط الأوفر من تلك الاتهامات وجه إلى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وذلك في الحقيقة، ليس اتهاما، لأنه يوضع في “خانة البديهيات”، إذ أن المجازر من الزركة في محافظة النجف، سنة 2007، إلى مجازر ديالى مرورا بالحويجة سنة 2013، ثم سبايكر والفلوجة كان المالكي بطلها الأوحد.
الواقع، أن اغتيال الناشطين في جميع المحافظات العراقية يؤشر على تراجع أمني خطير ويثبت قدرة الفاعلين على ارتكاب فعلتهم وعدم مقدرة الأجهزة الأمنية على ردعهم، وهذا ما قد يفضي إلى انفلات أمني يعمّ البلاد.
إن تقاعس الأجهزة الأمنية عن ممارسة دورها الدستوري في حماية المواطنين والناشطين يضع علامات استفهام كبيرة على دورها وتخليها عن واجباتها تجاه أمن المجتمع والمواطن وهو ما يجعل العراقيين أمام هاجس انهيار السلم المجتمعي في أي لحظة، كما يدفعهم، إزاء ما يجري من تكرار حوادث الاغتيالات لقيادات الحراك المعروفين وأصحاب الفكر والتنظير السياسي، إلى تجديد مطالباتهم للقائد العام للقوات المسلحة والوزارات والأجهزة الأمنية بتحمل مسؤولياتهم للحفاظ على حياة الناشطين والمتظاهرين السلميين وحقهم بالأمن والأمان وضرورة العمل، بنحو مكثف، للكشف عن العصابات المنفلتة التابعة للأحزاب المتنفذة بالسلطة، التي ترتكب هذه الانتهاكات والجرائم وبث الرعب والخوف وتكميم الأفواه وتقديمها للعدالة لتنال جزاءها العادل.
أرجع الدكتور علي محمود السبعاوي، وهو صحافي وناشط سياسي، في حديث معي، سبب استمرار الاغتيالات ضد الناشطين إلى استمرار سياسة الإفلات من العقاب في العراق مما شجع على تصاعد حوادث الاغتيال الممنهجة خارج نطاق القانون وتجاهل السلطات المحلية لإجراء تحقيقات جدية للوصول إلى الجناة.
لا ننكر أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي اتخذ إجراءات كثيرة على طريق تقليم أظافر الميليشيات أولها أنه قرر في يوليو الماضي تعيين رئيس جديد لجهاز الأمن الوطني، ومستشار جديد للأمن الوطني، والذي كان يشغلهما في السابق رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، المقرب من إيران، وكان آخر قرار إلغاؤه الأربعاء الماضي امتيازا سابقا يقضي بمنح موظفي الدولة الراغبين في الانضمام إلى قوات الحشد الشعبي (فصائل مسلحة شيعية) التفرغ الوظيفي، في إطار مساعيه إلى تحجيم نفوذ الفصائل الموالية لإيران مقابل تقوية المؤسسات الأمنية التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع.
والجديد في موجة الاغتيالات الجديدة، التي طالت ناشطين في البصرة وبغداد، أن الاغتيالات طالت قراء المجالس الحسينية الشيعية، الذين وقفوا مع المتظاهرين واستنكروا اغتيال الناشطين، كما أن 18 دولة أوروبية وغربية، أعربت عن قلقها “العميق”، ودعت السلطات إلى تقديم مرتكبيها للعدالة، مؤكدة دعمها “لإجراءات الحكومة بسط سلطة الدولة، وبما يشمل إخضاع الجماعات المسلحة لسيطرتها”، وفق بيان أصدرته سفارات تلك الدول في بغداد.
لكن المقلق للعراقيين استمرار غزل الكاظمي للميليشيات وقادتها، وكان آخرها ذهابه، وهو رئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، إثر عودته من واشنطن، إلى قصر هادي العامري للقاء قيادات الأحزاب والكتل والميليشيات الولائية وإطلاعهم على نتائج زيارته إلى واشنطن واجتماعه مع العاهل الأردني والرئيس المصري في عمان، في عملية بدت أمام العراقيين وكأنها استدعاء إلى التحقيق معه، أو محاولة لاستجوابه، وهما أمران خارجان عن السياقات السياسية المألوفة، المتبعة في الدول والحكومات، التي ترتبط بشعوبها وتعكس تطلعاتها، كما قال كاتب عراقي كبير.
إن القوى السياسية الشيعية أرادت، من خلال جر رجلي الكاظمي إلى قصر العامري، أن تبعث إلى العراقيين برسالة مفادها: نحن السلطة والحكم وأصحاب الحل والربط، وأن الكاظمي (موظف) لدينا، ومن حقنا أن نستدعيه إلى بيوتنا، ونواجهه بمفردنا.
على أي حال، فإن الصراع بين الكاظمي وبين الميليشيات والأحزاب المتنفذة في العراق ما زال في أوله ولا يمكن التكهن بنتائجه، الآن، فهو إما أن يقود إلى انتصار مفهوم الدولة، التي اغتالتها الميليشيات، أو إلى سيادة الفوضى، التي تريدها إيران في صراعها مع الولايات المتحدة الأميركية.