علي الصراف


إن ما جعل المقاطعة تفشل هو أنها كانت عملا "ثورجيا" أحمق لا علاقة له بتحديد أي أهداف واقعية وككل عمل أعمى فقد أصاب الفلسطينيين بالضرر أكثر مما أصاب إسرائيل.
هذيانات لفظية
من حين إلى آخر يتجاهل الردّاحون من “الثورجيين” العرب، وهم فصيلة قائمة بذاتها، كل شيء لينساقوا إلى مهاجمة أحد ما في قضية ما. اليوم صار التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، يوفر مادة لا حدود لها لممارسة هذا “الفن” القبيح.
وهو فن، بالأحرى، من فنون العمى. لأنه لا يرى الحقائق كما هي، ويقدم تفسيرات لا علاقة لها بالواقع، ويستند إلى تحليلات خيالية تثير البؤس.
وهناك ثلاثة أركان للثورجية. المبادئ والمقدسات هي الركن الأول دائما، والتخوين من جهة، وإدعاء الشرف المصون من الجهة الأخرى، هو الركن الثاني. أما الجمل العنترية الطويلة، والمركبة تركيبا تفاعصيا، فإنها هي الركن الثالث.
ولكي تمارس الردح، على أصوله، فيجب أن تتمتع بصفات أساسية. أولاها القابلية على الشطب. بمعنى أن تمنح نفسك الحق في أن تشطب التاريخ نفسه، والتضحيات، وكل شيء آخر لم يعد يعجبك. الصفة الثانية، هي الانقلاب السريع. خمس دقائق تكفي لتجعل الحق باطلا، والباطل حقا، طالما أنك تملك وصفة جاهزة من الهذيانات اللفظية التي تستطيع أن تسخرها في أي اتجاه تشاء. أما الصفة الثالثة، فهي ادعاء الطهر والشرف والبطولة من دون قيود، حتى لكأنك مالكها جميعا، وتستطيع أن تبذخ بها بمقدار ما تشاء على كل من تشاء، ومن ثم تحجبها عمن لم تعد تجد فيه صديقا.
كم يوجد من القضايا التي يتعين الانشغال بها، في “الساحة الفلسطينية” أو “الساحة السورية” أو “العراقية” أو غيرها؟ وكم يوجد فيها من الوجع مما يستحق الالتفات إليه ومعالجة مشكلاته؟ وكم من مظاهر الخلل السياسي والاقتصادي والإداري التي يرزح الفلسطينيون والعراقيون واللبنانيون تحت أثقالها كل يوم؟
الكثير في الواقع. ولولا أنها أهملت حتى بلغت مستوى التفسخ والاهتراء، ما كنا انتهينا إلى ما نحن فيه.
بقي أن تنسى كل هذا من أجل أن تطلق صواريخ الردح على الإمارات، مكررا الصواريخ العابرة للأخلاق التي لطالما أطلقتها على كل الذين ينظرون إلى الواقع من زاوية مختلفة، فذلك مما يجعل “فن الردح” فلسفة إساءة للذات.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بـ”القضية المركزية”، فثمة حقائق غالبا ما تميل هذه الفلسفة إلى القفز عنها. ومنها أن أحدا لم يفرض على الفلسطينيين شيئا، ولا تنكر لحقوقهم الوطنية المشروعة، ولا تفاوض نيابة عنهم، ولا أخذ ولا أعطى مما لا يملكه.
ولئن أصبح من المعيب أن تكون لبعضنا مصالحه الخاصة، فإن “مصادرة القرار الوطني” التي طالما كانت قضية تستدعي التنازع بالنسبة لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيال تدخلات الدول العربية (الأكثر ثورية منها)، تنقلب اليوم لتصبح سببا للعدوان المضاد. فإذا كان قرارك الوطني مقدسا إلى ذلك الحد، فكيف جاز أن تنكره على غيرك؟
التطبيع، في النهاية، مفيدا كان أم غير مفيد من وجهة نظرك، فإنه “قرار وطني” يمتلك القدسية ذاتها.
هذا يجعل الفلسطيني صاحب “القرار الوطني”، على سبيل المثال لا الحصر، آخر من يحق له إدانة أي صاحب قرار وطني آخر.
هناك، بطبيعة الحال، تداخلات تجعل القضية الفلسطينية قضية “داخلية” للجميع، بمقدار ما أنها “قضية وطنية” للفلسطينيين. وهناك خطوط حمر أيضا. صارت من العرف والمألوف الذي لا يمكن لأحد أن يتخطاه.
فهل تخطت الإمارات على ما تخطت عليه مصر أو الأردن؟
الحقيقة هي أن لا مصر ولا الإمارات ولا الأردن تخطت تلك الخطوط، وظلت تعلن احترامها، كما ظلت تعتبرها من أسس السلام العادل، وتجتهد بكل ما أتيح لها من وسائل لتثبيتها كحقوق مقدسة.
لقد عرفنا من إثارة الذعر من التطبيع مستويات مختلفة، بما قد يشمل أن لا تقول لجارك اليهودي صباح الخير. وبما يشمل اعتبار زيارة المسجد الأقصى عملا من أعمال الخيانة العظمى. وذلك قبل أن يصدح الرئيس الفلسطيني بالنداء ذات يوم بالقول إن زيارة الأقصى ليست تطبيعا، وإن زيارة السجين ليست جريمة.
وكل ذلك كان يدل على أننا لا نعرف ماذا نريد من مقاطعة إسرائيل. لأننا ونحن كنا نفعل ذلك، فقد كنا نقاطع الفلسطينيين أنفسهم، سواء من داخل أراضي 48 أو من داخل أراضي 67. وامتدت المقاطعة لتشمل حتى الزيتون الذي تنتجه المزارع الفلسطينية. كما أصبحت زيارة أهلك في الجولان المحتل، شبهة تتطلب الحصول على براءة ذمة من جهاز المخابرات، قبل أن تقوم بها، وتحقيقا في الشبهات بعدها.
إن ما جعل المقاطعة تفشل، هو أنها كانت عملا “ثورجيا” أحمق، لا علاقة له بتحديد أي أهداف واقعية. وككل عمل أعمى فقد أصاب الفلسطينيين بالضرر أكثر مما أصاب إسرائيل.
ولقد بقينا ننظر، بسبب ذلك الحمق المتأصل، إلى فلسطينيي 48 على أنهم أنصاف خونة، لأنهم آثروا البقاء في منازلهم، تحت الاحتلال، ولم يختاروا التشرد. وعندما وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يحملوا جوازات سفر إسرائيلية، فقد أصبحوا خونة بالتمام والكمال.
هؤلاء اليوم هم أكبر قوة داخل إسرائيل لمواجهة نزعاتها وسياساتها العدوانية، وهم أكثر الضحايا لسياساتها العنصرية، ولكنهم في الوقت نفسه أكبر قوة للتغيير في إسرائيل. وهم جزء لا يتجزأ من شعب الـ7 ملايين في فلسطين التاريخية.
لقد شمل الامتناع عن “التطبيع” مع إسرائيل حتى هؤلاء، ليقدم دلالة صارخة على مدى سطحية المقصد منه. وثمة من نزع عنهم هويتهم الفلسطينية ليسميهم، كما تسميهم إسرائيل، “عرب إسرائيل”. لقد تنكرنا لهم، وأعدنا توصيفهم، كمن يتنكر لأخيه ويعيد تسميته، لمجرد أنه وجد نفسه على الجانب الآخر من الحدود.
كل هذه كانت من أعمال الخوف من التطبيع.
السؤال: ماذا حققنا من إدانة التطبيع؟ يحسن أن يُحمل على محمل السؤال: ماذا نريد من التطبيع؟ أو ماذا نريد من الامتناع عنه؟ وكيف نحول دون أن يتحول إلى ضرر؟
تقديم إجابات مدروسة، ليس أمرا معجزا. لدينا من الخبراء والباحثين ما يكفي لكي يرسموا خارطة واقعية للمطلوب.
أما الهذر والهذيان، فقد ملأنا الدنيا بهما صخبا، ولم نحقق المراد، لأننا لم نكن نعرف ما هو المراد من الأساس، ولا كيف نصل إليه.
وهل يُفترض ألا تختلف التقديرات والمقاربات بين صاحب هذا القرار الوطني وصاحب القرار الوطني ذاك؟
عدم الاختلاف أمر غير واقعي، ولا منطق فيه. ولكن عندما يقف كل قرار وطني على القاعدة المشتركة ذاتها، فإن آخر شيء تحتاجه هو أن تتعامل معه كما كنت تتعامل مع “عرب إسرائيل” وتعيد توصيفه على هواك.
أما إذا كنت لا تعرف ما هي “القاعدة المشتركة”، ولا كيف تؤصل الوقوف عليها، فتلك مشكلة أخرى.
أمناء الفصائل الفلسطينيون الذين اجتمعوا بحضرة الرئيس محمود عباس، لم ينطبق عليهم وصف “تجار القضية” من قبل كما انطبق عليهم هذه المرة. ليس لأنهم هاجموا الإمارات، وليس لأنهم شطبوا التاريخ، والدور، والمواقف في خمس دقائق، بل لأنهم مارسوا الشعارات الخاوية التي لم يقدموا لها شيئا سوى الفشل.
وكان الأحرى بهم أن يستحوا من فشلهم نفسه. فإذا وجدوا له تبريرات، فقد كان من الخير أن يتواضعوا لها.
الردّاحون، يفترضون لأنفسهم سلطة المنع والتحريض والإدانة. وهي سلطة لا قيمة لها في الواقع، لأنها من زبد الهذيان الذي لا يسمن من جوع ولا يغني من فقر. مجرد صراخ في واد مقطوع لا يرتاده إلا الردّاحون أنفسهم، فيتغنى أحدهم بالآخر. وهذا مما لا ينفع القضية ولا يُسعفها من أذى.
لدينا مشكلة”. وأصل المشكلة نحن”. هذه بداية أخرى. مقاربة هي التي تستوجب الانشغال بها. ولكن فلسفة الردحالثورجيلا تستطيع الأخذ بها. لأنها مثل حكايةالفن من أجل الفن، ردح من أجل الردح فحسب.