عبد الرازق أحمد الشاعر
هل آن للبشرية أن تدير ظهرها للسماء، وأن تستبدل شرائع الإله بدساتير الأرض، وأن تتحدى بما أوتيت من معارف علوم الرب وكتبه المقدسة؟ هل آن أن تجاهر البشرية بعصيانها الأول وفسوقها القديم في غير حاجة إلى ستر عورة أو مداراة خبيئة؟ هل ننتظر إعلان تمرد شامل من أقصى الخرائط إلى أقصاها ضد سماء صارت قاب قوسين أو أدنى من طائراتنا الشبحية وصواريخنا العابرة للمقدسات؟ وهل ننتظر إعلان المتمردين سيطرتهم على ملكوت الأرض وتنصيب الدجال إلها عليها؟ وهل نحن على مشارف نهاية درامية لرحلة الإنسان على كوكب لطالما أفسد فيه وسفك الدماء؟
كل الدلائل تشير إلى شيوع حالة من الفوضى الأخلاقية بين سكان هذا الكوكب، وسط حالة من الارتباك غير المسبوق في صفوف المتدينين وأهل العقائد. ففي كل يوم، يعلن أصحاب الحريات عن تحقيق انتصارات جديدة على أصحاب القيم في ساحات الصراع. ومع مطلع كل شمس، تزداد مملكة الخارجين على سلطان السماء اتساعا، وتنكمش المحاريب والبيع والصلوات. فإذا ما تطاول أحد المحافظين، فذكر الناس بآية، أو قرأ على الناس حديثا، تكالب عليه أهل الشر من كل واد، واتهموه بالتخلف، وكأن قوانين السماء "الرجعية" لم تعد صالحة لأهل الأرض وذراريهم.
آخر ما قرأت من المبكيات، قصة جرت أحداثها المؤسفة في إحدى مدارس جنوب إفريقيا، والبطلة الضحية وزيرة صحة إقليمية هناك. كانت فوفي راماثوبا تقوم بجولة تفقدية لمدرسة جوانين الثانوية لتدشن العام الدراسي الجديد، فإذا بها تقرر الخروج عن صمتها المعتاد، وتخرج عن حدود اللياقة المجتمعية، وتتوجه للطالبات بخطاب سرعان ما أثار حفيظة المجتمع الجنوب إفريقي بأكمله.
" لقد أصيبت بعض الشابات بفيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز لأنهن مارسن الرذيلة مع كبار السن، فقد كن يطمعن في العطايا. اعلمن أنهم لم يشتروا لكن الهاتف الذكي والشعر البرازيلي مجانًا، فهو يأتي مع المرض. يجب أن نحظر وصلات الشعر البرازيلية هذه في مدارسنا،" ثم تابعت راماثوبا حديثها الثوري: " لطفلتي الصغيرة أقول: افتحي كتبك وضمي ساقيك. لا تفتحي ساقيك، افتحي كتبك. شكرا جزيلا لك!" وانتهي حديث فوفي، لكن توابعه الزلزالية لا زالت تتردد في وسائل الإعلام ووسائل التواصل حتى وقت كتابة هذا المقال.
يبدو أن الوزيرة الموقرة لم تكن تدرك تبعات جرأتها على الحريات العابثة. فقد كانت تظن أنها تدافع عن 132,612 من الفتيات اللواتي حملن سفاحا خلال عام واحد فقط ولا زالت أعمارهن تتراوح ما بين 15 و19 عاما. لم تكن الوزيرة "البلهاء" تريد أن تتكرر مأساة 33,899 طفلا هم حصيلة عام واحد من الانفلات الأخلاقي. وكان في مخيلتها أن المجتمع الذي تحاول أن تحميه من التفسخ والضياع سيقدر لها موقفها المشهود. لكن النتيجة كانت مخيبة لأحلامها المجهضة. فقد ثارت ثائرة المدافعين عن الحريات في طول البلاد وعرضها ضدها ومنهم من طالب بإقالتها من منصبها، بل تطاول البعض فطالب بمحاكمتها على خطابها "المشين"، مما دعاها إلى التراجع عن خطابها الجريء: "لم أكن أوجه خطابي للفتيات فقط."
في هذا العصر، عليك أن تبرر اعتدالك، وأن تكفر عن أي كلمة حق في وجه مجتمع جائر، وأن تعتذر عن تغريدك خارج سرب الشيطان وقوافل التغريب. وألا تأخذك الحمية لدين وألا تغضب إذا ما انتهكت حرمة. فقد حللت مباحات الترفيه محرمات النهي عن المنكر في كل المجتمعات ، وحل الخليفة محل الرب، وتحولت القبلة نحو هيكل الميتافيرس.
لا أعرف كيف تسلقت فوفي سلم السياسة في جنوب إفريقيا وهي لا تعي أبجديات النفاق في عالمنا المعاصر! ولا أعرف إلى متى ستبقى حقيبتها الوزارية في يدها آمنة قبل أن يغلبها عليها أنصار الحريات المفتعلة، لكنني على يقين من أن مفتاح مكتبها لن يظل في سلسلة مفاتيحها طويلا.
يجب أن تدرك فوفي، وكل فوفي، أن الإله الذي شرع العفة كان قاسيا، وأنه كان متطرفا جدا حين فرض العقوبات على المتهتكين والمتهتكات، وأن جزرة الحاكم خير من عصا الإله الذي تثور البشرية كلها - إلا من رحم - اليوم ضده، وعلى الذين يعضون بالنواجذ على ما تبقى من قيم أن يهيئوا أنفسهم لغد هو يقينا لناظره أليم شديد.
0 تعليقات
إرسال تعليق