بلقيس خيري شاكر البرزنجي
تنهيدات متتالية إنهُ أنين الروح،شعور مُعبِّر عن آهاتي خلف ستارة ذاكرتي،
لازال عالقًا هناك نفس عبق تلك الرائحة البهية منذ كان سني أحد عشر عاماً حيث كانت آخر زيارةٍ لي إلى بيت العائلة الكبير (بيت جدي) هناك حيث لم تنجبني أمي، ولدتُ في مدينة أُخرى، وقضيتُ ريعان طفولتي بعيداً عن ذلك القصر العتيق حيث يعيش فيه أعمامي وأولادهم،
لذلك أصبحَتْ علاقتي بهم سطحيةً لقد نشأتُ وترعرتُ في مدينةٍ أُخرى بعيدا عن مسقطِ رأس أبي وأعمامي...
عندما كنت طفلة كانتْ لي زياراتٌ كثيرةٌ هناك الى أن تباعدت تلك الزيارات ثم انقطعت أو أصبحت قليلةً جدًّا...
والآن أنا امام باب بيت جدي تضجُّ ذاكرتي بتلك الأحداثِ تتصور أمامي كأنها حدثت للتوِّ،
منازل أعمامي أحدهما مجاور للآخر من اليمين و اليسار والأمام ومن الخلف هكذا بترتيب معين،
لا أتذكر شيئًا سوى ذلك الجيش الوافد الذي لايُعدُّ ولايُحصى من أولاد عمومتي يتشاجرون ويلعبون دون كللٍ أو مللٍ كأنني دخلتُ لتلك المنازل واقتطعتُ جزءًا من صورتها كي تبقى محفوظةً بذاكرة عندما يهبُّ نسيمها تذكّرني بأيامٍ مضتْ ولن تعود...
عند ذهابي للقرية شاهدتُ بيوتاً مجاورةً لبيت جدي كأنني في صغري قد زرتها، في خيالي شيءٌ خفيٌّ لكن لا أعرف تفسيرَهُ، أهو لحنٌ مألوف؟ أم صوتٌ شجيُّ لأُغنيةٍ قديمةٍ لا أحد يتذكر لحنها؟
دائمًا يراودني ذلك الشعور لكنَّهُ يبدو حقيقةً،اليوم أتيتُ إليك أيها المنزل القديم حتما ستعرفني،
أنا أبنتك المفقودة في كبري أصبحت زياراتي قليلةٌ إليك لكن يراود ذاكرتي البائسة خناقاتٌ وأفكارٌ متشعبةٌ ومزدحمةٌ كثيرةٌ، في أحد الأيام وأنا في عمر الثالثة والعشرين، حدث ان زرته عدة مرات قليلة وفي أحد مرات وقفتُ هناك أمام باب القصر العتيق، ولكن ياللهول الصدمة! هل حقّا ما أرى؟
وبسرعةٍ تلاشتْ الصور القديمة الجميلة لأشاهد منظر البؤس والخراب،
صُدمتُ بمنظر القصر القديم الذي أصبحت جُدرانُهُ باليةً في هذه اللحظة سمعت الزمن يهمس في أذني ويقول من سيمسح عن جدارنك الأسى؟؟؟؟
أيها القصر القديم مَن هدَمَ جُدرانَك وأسوارَك؟؟
يابيت جدي أين ضاع مفتاحك؟؟
مَن قطَعَ أشجارَك وتعدّى على شجرة البرتقال؟؟
لماذا تآكلَتْ بيبانك؟؟
أين رائحتُك الفخمة وعبقك العطر؟؟
لماذا تجثو القطيعة والغربة على جدرانك؟؟!
كأنّ أبوابك تبكي على ترفها السابق، يابيت جدي هل ماتت الأفراح؟؟؟ ربما...كل الذي حدث لك مما اقترفتْ أيدينا ياحسرتاه!! ! كلمة ندمٍ لا تعيد شيئًا لوضعه المعهود
أغلقنا أبواب المحبة وعلى الغربة نشأت حياتنا،
أصبح أعمامي مجرد جيران تفصلهم أبواب وجدران في هذا البيت هناك كركبة من خيوط العناكب الكثيرة والطلاسم الشعوذة التي دفنت من قبل العواذل لهدم هذا البيت،
لم يبقَ لا طعمٌ ولا لونٌ لهيئتهِ الفخمةِ واختفى سحر جماله القديم،
ربما ماحدث لك كان بسبب خطيئةٍ صدرت من أحدٍ
أو من القائم بأمر دار بقية أعمامي،
لماذا نقص عدد الأفراد داخل المنزل؟؟؟
أين موائدك الكبيرة العامرة بألذّ وأطيب أصناف الطعام؟؟؟؟ ويتصدرها رؤوس الخرفان المشوية التي كانت تنحر لضيوف الدار الكبير،
كان لبيت جدي ولايزال اسم كبير في تلك القرية التي لم أنشأ بها لأنّ جدي كان مختار القرية لمدة خمس وعشرين سنة وشيخ القبيلة في نفس الوقت،
حفظك الله ياجدي ياقطعة من قلبي وأنا في حديث الذات مع نفسي تقاطعني جدتي بصوتها المتعب ادخلي للمنزل، أحسستُ بغصةٍ كبيرةٍ لم تعد الأمور كما كانت سابقًا لقد تغيرنا وتغير كل شيء ذهب مع من ذهبوا ورحل من رحلوا! ياترى هل لنا موعد؟
هل لنا لقاء؟؟؟
هل سيعود سكان هذا المنزل له؟؟
أم أنه سيضيع في ذاكرة النسيان وينمحي ذكره؟؟ ؟
أم سيخلد ذكره كما في الأساطير مع من خلدوا.
هل سيعود لك مالك وجاهك؟؟
(( أم سيادة تأبى بأن تذهب لغير حامليها ))
انها لاتليق إلا بأهلها،
سنغدو وننتظر مايخبّئ الزمان ربما يكون أفضل لأني أشعر بأنّ مايحدث معي ليس محض صدفة، بل تمهيد لحياة جديدة وشيء منتظر منذ الأزل، وسأكون هناك يومًا ما في قلب موطني الصغير. وسينير المنزل بعودة سكانه وبقية أفراده له ويحل النور ويزهق الباطل،
اني مؤمنة بالقدر.
كن بانتظاري أيها المنزل العتيق.
0 تعليقات
إرسال تعليق