د. ميثاق خيرالله جلود
مركز الدراسات الإقليمية بجامعة الموصل
تمثل المملكة العربية السعودية عمقاً استراتيجياً للعراق، والعكس صحيح، لذا فإن تطوير علاقات البلدين كان ولايزال مطلباً شعبياً ترنو اليه النخب الاكاديمية والثقافية، إلا أن الانعكاسات السلبية لعلاقة نظامي البلدين كانت تمثل دوماً محددا رئيسا لمستوى العلاقات
التي اتسمت بتقلباتها، إذ من المستغرب أن لا يكون هناك علاقات استراتيجية بين العراق والسعودية، فالعراق هو أكبر وأهم جار للسعودية، والسعودية أهم جار للعراق وهي مفتاح العراق للاندماج العربي والعالمي، وفيما يخص السياسة الخارجية السعودية تجاه العراق فهي جهد سعودي مرتبط برد فعل العراق، ومن ثم فإن توجهات السعودية تجاه العراق شراكة بين الطرفين على اساس التقارب في الوزن الجيوسياسي للبلدين، فالسعودية ليست دولة عظمى تستطيع فرض سياستها على العراق بغض النظر عن وجهة نظر العراق.
من يصنع السياسة الخارجية السعودية:
عُرٌفت السياسة الخارجية عدة تعريفات نذكر منها: " إنها مجمل جهد الدولة العابر للحدود "، وتختلف الدول في فلسفة السياسة الخارجية وآلياتها، اذ ترتبط السياسة الخارجية ارتباطا مباشرا بطبيعة النظام السياسي والوزن الجيوسياسي للبلد، فالعلاقة طردية بين نجاعة السياسة الخارجية وقوة البلد، وطبيعة الدولة المستهدفة بهذه السياسة الخارجية.
تعد وزارة الخارجية السعودية أول وزارة تم انشاؤها في المملكة العربية السعودية عام 1930، ومن أهم ملامح ومزيات السياسة الخارجية السعودية أنها ليست متعددة الأطراف، بمعنى أنها تصدر من جهة واحدة أوكلت إليها مهمة الجهد الخارجي، فليس هناك في السعودية مراكز قوى متقاطعة، فملف السياسة الخارجية بيد الملك ووزرائه وكبار أمراء الأسرة المالكة(المؤثرين) وأداتهم وزارة الخارجية، فإن حصل تقاطع في التوجهات تكون الكلمة الفصل للملك، أما دور وزير الخارجية تحدده امكانات الوزير، فعلى سبيل المثال كان (سعود الفيصل) أهم وزير خارجية على مدى تاريخ المملكة العربية السعودية، بعد أن شغل هذا المنصب لمدة (40) عام(1975-2015)، إن لم يكن من أكثر وزراء الخارجية العرب حنكة وإحترافية في أداء مهامه، لذلك كان يتمتع بمساحة من الحرية في إدارة ملف السياسة الخارجية، وبعد أن خلفه (عادل الجبير)، وبالرغم من خبرته الجيدة في مجال العمل الخارجي وإمكاناته المميزة إلا أنه لم يستطع ان يملأ الفراغ الذي تركه (سعود الفيصل)، فضلا عن تداعيات مقتل الصحفي(جمال خاشقجي) لذلك تم استبداله بــــ(ابراهيم بن عبد العزيز العساف). إن من عناصر القوة في السياسة الخارجية السعودية الإعتماد على مكانة المملكة بين الدول العربية والإسلامية، والسياسة النفطية وعوائد النفط، فضلاً عن الإعتماد على الحلفاء الأقوياء وبخاصة الولايات المتحدة الامريكية.
جذور السياسة الخارجية السعودية تجاه العراق:
مرت السياسة الخارجية السعودية تجاه العراق منذ ظهور البلدين بوصفهما دولتين، بخمسة مراحل أساسية يمكن تصنيفها بالآتي: سياسة "العلاقات الدافئة المتذبذبة" في المدة(1926-1975)، وسياسة "الإنفتاح الإيجابي" (1975-1990)، وسياسة "القطيعة والعداء"(1990-2003)، وسياسة "ترَيث وراقب" مع التشنج أحياناً(2003-2015)، ومن ثم جاءت سياسة "الإنفتاح الإيجابي والجاد" في الوقت الراهن.
من المعروف أن الحكم في السعودية يتميز بالثبات منذ ثلاثة قرون على عكس العراق الذي شهد تغيير أنظمة الحكم بإستمرار، لذلك كان المحرك الأساس لسياسة السعودية الخارجية تجاه العراق علاقة نظامي الحكم في البلدين، فضلاً عن محركات أخرى داخلية أو إقليمية، ففي حقبة الحكم الملكي للعراق كان آل سعود والهاشميين على خلاف وتقاطع لأسباب معروفة، وفي عقود الجمهوريات العراقية، إتسمت العلاقات بالفتور والتذبذب والقطيعة والإنفتاح أحياناً، فبعد ثورة 14 تموز1958 في العراق وعلى الرغم من الريبة السعودية من الثوار في أيام الثورة الأولى، إلا أن السياسة الخارجية السعودية تجاه العراق بقيت على الاستراتيجية نفسها المتسمة بالخمول، كذلك الحال فيما يخص مدة حكم العارفان(عبد السلام محمد عارف، عبدالرحمن محمد عارف) .
بعد تغيير النظام السياسي في العراق في تموز/يوليو 1968 كانت العلاقات العراقية- السعودية جيدة حيناً ومتوترة أحياناً أخرى، اذ بدأت السياسة الخارجية السعودية تجاه العراق إيجابية إلا أن إختلاف الرؤيات حول السياسة النفطية وامن الخليج والعلاقات مع الدول الكبرى كان سبباً في التشنج وحملات الهجاء الإعلامية المتبادلة.
بعد عام 1975 برزت ظروف عربية ودولية جديدة كان لها آثارها المباشرة في تطوير العلاقات بين البلدين، ومن أهم هذه الظروف تحركات العراق لتقوية العلاقات مع دول الخليج*، فقد إتجهت العلاقات بين البلدين إلى أجواء التفاهم والوفاق في العديد من المجالات، بعد تسلَم الملك خالد بن عبد العزيز(1975-1982) عرش السعودية، فقد إتسمت سياسةالسعودية في عهده بالإنفتاح الإيجابي تجاه العراق، وإستمر الأمر وتعزز بعد إندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، إذ وقفت السعودية مع العراق في الحدود التي لا تستفز إيران.
حصل إجتياح القوات العراقية للكويت في الثاني من آب/أغسطس 1990، ووقفت المملكة العربية السعودية إلى جانب الكويت وشاركت في الجهد الحربي ضد العراق، ومن ثم إنخرطت السعودية ضمن الإستراتيجية الأمريكية تجاه العراق في احكام الحصار الاقتصادي وإضعافه، إذ أصبحت العلاقات مجمدة طوال عقد التسعينيات.
بعد وقوع أحداث أيلول/ سبتمبر2001، تعرضت المملكة العربية السعودية، إلى حملة ضغوط أمريكية كبيرة تدعو إلى تغيير المناهج وإجراء إصلاحات في البلاد تنسجم مع المصالح الأمريكية، فضلاً عن الضغوط التي مورست على المملكة لفتح أراضياها وأجوائها لصالح عملية غزو العراق إلا أن المملكة كانت في تلك المدة قد اتخذت قراراً صلباً تجاه هذا الأمر فوافقت على الدعم اللوجستي، ورفضت أي عملية حربية من أجوائها أو أراضيها تجاه العراق وكل ما كتب أو أشيع عن دور السعودية في المجهود الحربي الأمريكي تجاه العراق يفتقد الى الدقة والمصداقية. وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وما شهده العراق من تغيرات بقيت السعودية غير متبنية لسياسة خارجية واضحة تجاه العراق (ترَيث وراقب).
الإنفتاح السعودي الجاد تجاه العراق: تعزيز المكانة وأخذ الدور:
حصل تغيير جذري في السياسة الخارجية السعودية تجاه العراق في عام 2015 بعد تولي الملك (سلمان بن عبد العزيز)، وولي عهده الأمير (محمد بن سلمان) تبنت سياسة جديدة وهي جزء مما نسميه "مبدأ سلمان" إذ تحول الفعل السياسي الخارجي السعودي من المكانة والإعتماد بشكل كامل على الحلفاء الى الدور والفعل المباشر، ومن ملامحه ملاحقة إيران في مناطق نفوذها، ومنافستها في العراق.
إن هذه التوجهات الجادة في السياسة الخارجية السعودية تجاه العراق كان مصداقها التحركات السعودية على أرض الواقع، فقد تم تفعيل عمل السفارة السعودية* في بغداد، والإعلان عن قرب فتح قنصليات في الموصل والبصرة والنجف، كذلك فتح المجال لزيارات متبادلة وعلى اعلى المستويات، ايضا لم تعد السعودية تتحسس من التعامل والترحيب باطراف عراقية صديقة لايران اذ اسنخدمت براغماتية عالية في هذا الملف لتخفيف حدة الاصوات الداخلية العراقية التي من الممكن ان تستعدي التوجه السعودي تجاه العراق. ايضا اعادت الخطوط الجوية السعودية تسيير رحلاتها من والى العراق بعد انقطاع دام نحو ثلاثة عقود، كما تبرعت السعودية باعمار معبر عرعر من الجهتين السعودية والعراقية بمبلغ (50) مليون دولار، والذي سيتم افتتاحه في تشرين الاول 2019، وأهدت ملعب أولمبي وملحقاته تم الاتفاق على بنائه في منطقة اللطيفية في بغداد، وتوقيع مذكرات تفاهم واتفاقيات تجارية، فضلا عن افتتاح فرع من مجموعة قنوات(MBC) الفضائية موجه الى المشاهد العراقي، اذ تم افتتاح قناة(MBC العراق)، والمتابع لبرامج هذه القناة يلاحظ ابتعادها المفرط عن السياسة، وعدم انتقاد اي طرف عراقي، وتوزيع برامجها على جميع المناطق العراقية، بمعنى انها تحاول جذب المشاهد العراقي دون ترك أي ذريعة للأطراف العراقية التي تبحث عن عثرات السياسة الخارجية تجاه العراق.
ومن اهم دوافع السعودية في توجهها لتحسين العلاقات مع العراق:
1 –ظهور تنظيم "داعش" وسيطرته على نحو مساحة نصف العراق عام 2014، وقد أظهر هذا الامر لبلدان الإقليم أن ترك العراق والتعامل معه باسلوب الإنتظار والتفرج من الممكن أن يعصف بالمنطقة وأنظمتها في لحظة تاريخية. لذلك أعادت السعودية حساباتها ورتَبت أوراقها من جديد بعد هذا الحدث التاريخي، الذي قدَم درساً لصناع القرار والمخططين الأستراتيجيين، ونحن نعلم أن المملكة العربية السعودية لديها ملاك محترف يدير ملف السياسة الخارجية تجاه بلدان المنطقة والعالم.
2- إحتواء العراق وجذبه وبخاصة بعد السياسة الامريكية المتشددة والجادة تجاه ايران بعد تولي الرئيس الامريكي دوناد ترامب للحكم، وبالتالي شعر صانع القرار السعودي أن الفرصة أصبحت سانحة لخلق حالة توازن مع النفوذ الإيراني في العراق، فمن مصلحة السعودية تعزيز الهوية الوطنية والقومية للعراق بوصفه بلداً عربياً وهذا الأمر مفيد في تحجيم دور ايران، ومن مواطن القوة السعودية في هذا الملف تفوَقها المالي على إيران، إلا أن الأمر ليس سهلاً ، فقد شبًهت مجلة (الايكونومست) البريطانية التوجه السعودي إلى العراق بمباراة كرة القدم التي حصلت في البصرة عام2018 إذ ركض اللاعبون السعوديين في المضمار ورحَبوا بالعراقيين، وبذلوا جهداً وافراً في كل أرجاء الملعب وخسروا برباعية، في إشارة إلى أن التفوق سيكون في النهاية لصالح إيران، ونحن نقول أن مفتاح نجاح أو فشل التوجه السعودي تجاه العراق يكمن في الصبر السعودي على وفق نظرية "عض الاصابع مع ايران واصدقائها "، فمن يصبر حتى اللحظة الأخيرة سيكون البطل.
3- تعيش السعودية حاليا مرحلة تقاطع وصراعات مع عدد من الدول والجهات، فهي تمر بحالة حرب في اليمن مع الحوثيين وحلفائهم، وفيما يخص قطر بينهما قطيعة وتراشق اعلامي، وفي عمان والبحرين والكويت هنالك اصوات تنتقد السياسة السعودية علنا، وفي سوريا آلت الامور لصالح نظام بشار الاسد، وقد كانت السعودية ترغب أن يخلع عن السلطة، وفي لبنان اصبح العداء واضحا بينها وبين حزب الله، ومع تركيا هناك حالة من التقاطع في وجهات النظر تجاه ملفات المنطقة، وبخاصة في الملفين المصري والقطري، فضلا عن المنافسة السعودية الايرانية التركية القطرية، في الدول التي تهاوت قياداتها السياسية وفي مقدمتها السودان، كل ذلك يدفع السعودية الى وضع قدم راسخة في العراق قبل ان ينجذب الاخير الى أحد المحاور الاخرى.
3- المكاسب الاقتصادية التي من الممكن أن تجنيها المملكة العربية السعودية من رفع مستوى العلاقات الإقتصادية مع العراق، ولاسيما أن العراق أصبح سوقاً مغرياً لبدان المنطقة، وبالتالي تريد السعودية بثقلها الاقتصادي منافسة تركيا وايران في هذا المضمار.
4- لا يستبعد أن يكون التوجه السعودي هذا بالتشاور مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أن إدارة ترامب تشترك مع النظام السياسي السعودي في عدم الرضا عن سياسة إدارة أوباما تجاه الشرق الأوسط. فضلا عن التحركات العسكرية الامريكية التي من الممكن ان تكون مقدمة لضربة عسكرية على ايران.
معوقات السياسة الخارجية السعودية الايجابية تجاه العراق:
1-هناك مشكلة دائمة تصاحب العلاقات العربية- العربية بشكل عام؛ وهي اقتصار العلاقة على الأنظمة والربط بين علاقة الأنظمة بعضها ببعض وعلاقة الشعوب، فإذا تحسنت علاقة نظامين عربيين تتحسن العلاقات على جميع الصعد، وإذا ساءت تغلق جميع الأبواب والنوافذ، وفي رأينا ينبغي على الحكومتين العراقية والسعودية السعي إلى بناء علاقات دائمة ومتميزة.
2-التصريحات التي لا تنفع بل تضر، التي يطلقها بعض المسؤولين من الطرفين العراقي والسعودي، وهي التي تكون سبباً في أزمات سياسية غير مسوَغة.
3- الموقف الاقليمي والدولي من أي تقارب سعودي عراقي ولاسيما إيران والولايات المتحدة الأمريكية، إذ ليس من مصلحة إيران أن تتطور العلاقات العراقية- السعودية وبخاصة أنها ستخسر أهم سوق استهلاكي لها في المنطقة، فضلاً عن تضرر ملف الطموحات الإيرانية في إحياء إمبراطوريتها في المنطقة العربية، أما الولايات المتحدة الأمريكية فدورها في هذا الملف غير محدد المعالم وغير مأمون الجانب أيضاً، على الرغم من أنها حالياً تبدو وكأنها تؤيد التوجهات السعودية لكن هل سيستمر هذا التأييد؟.

1 تعليقات
بارك الله بك اخي الدكتور ميثاق خير الله جلود وكم نحن بحاجة الى هكذا تحليلات ورؤى تفيدنا في فهم ما يجري حولنا وكما كنا نفعل سابقا في مركز الدراسات الاقليمية وخاصة في نشرتنا ( تحليلات استراتيجية ) ونشرتنا ( متابعات اقليمية ) . وكم انا سعيد وانا ارى نشاطاتكم واستمراريتكم في هذا المجال ..شكرا لوكالة الحدث وللدكتورة باهرة الشيخلي على اهتمامها ...ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ متمرس -مركز الدراسات الاقليمية -جامعة الموصل 22-6-2019
ردحذفإرسال تعليق