عمر سعد سلمان

 

يتغنى الكثيرون بالتنمية الاقتصادية، فالصحف تكتب والاذاعات تتحدث والطلاب يتعلمون والمحاضرون يحاضرون ونخرج من هذا بنتيجة واحدة هي ان الموضوع شيق ومثير وان كان غامضاً وغير واضح. هل جوهر التنمية الاقتصادية هو التحقيق المادي الذي يقاس برفع متوسط دخل الفرد الحقيقي في المجتمع؟ وتفتح المدارس والمستشفيات وتنشأ الطرق وتطور وسائل الاتصال ويتم تكون ما يسمى راس المال الاجتماعي فهل جوهر التنمية هو البناء والانشاء؟ وتقام المصانع وتستورد الآلات والمعدات والخبرات الفنية والإدارية والاقتصادية ويتم تصنيع بعض السلع وتطبع عليها العبارة الجذابة (صنع في ...) فهل جوهر التنمية الاقتصادية هو التصنيع؟ لكي تقوم تنمية اقتصادية في أي بلد لابد وان تكون هدفاً قومياً لهذا البلد وجوهر التنمية الاقتصادية هو تضافر جهود كل او معظم الوحدات الموجودة في ذلك البلد سواء كانت هذه الوحدات افراداً عاديين او جهات حكومية او مؤسسات مستقلة خاصة او عامة. وكون ان التنمية الاقتصادية هدف وطني يعني بالضرورة تعبئة كل الطاقات الممكنة لتحقيق هذا الهدف. وان جود اهداف أخرى قد يعرقل من فعاليتها وفي بعض الأحيان يعطلها كلياً (كما يحدث لو ان الدولة تكون في حالة حرب مع دولة أخرى). والتنمية الاقتصادية بهذه الصفة تشبه المعادلة الرياضية التي تعتمد طردياً على العديد من المتغيرات وليس على متغير واحد. ومحاولة إيجاد اقصى قيمة ممكنة لهذه المعادلة يتطلب ان تكون قيم كل المتغيرات عند اقصى قيم ممكنة لها. وهذه الصفة للتنمية الاقتصادية، أي كونها هدف قومي، يستدعي من كل مواطن ان أمكن ومن كل إدارة حكومية ان أمكن ومن كل مؤسسة ان أمكن، بذل اقصى المجهودات الممكنة لتحقيق الهدف. ليست التنمية الاقتصادية حلة تصنعها الدولة لتبدو جميلة وليس ماكياج بهدف اغراء الناظر وانما هي أعمق بكثير، انها طريقة جديدة للحياة والعمل من قبل كل وحدات المجتمع.
والتنمية الاقتصادية (هدف) يقع الواجب الأكبر بالنسبة لتحقيقيه على المواطن (العادي). وواجب المواطن هنا هو ان يعمل أكثر لكي يرفع من مستواه ومستوى اسرته العملي والصحي والمعيشي، وبعبارة أخرى عليه ان لا ينتظر حتى تقدم له الدولة التعليم والعلاج او ترفع مستوى معيشته. ان تحمل كل مواطن مسؤولية رفع مستواه المعيشي ومسؤولية تعليم أبنائه وتحسين مستواه ومستوى اسرته يعني ان عليه ان يعمل أكثر ليحقق دخلاً أكبر، والمواطن ليس الا عضواً في المجتمع. ولو حاول كل مواطن تحسين مدخل منزله او متجره لتحسنت كل شوارع المدينة او القرية التي يعيش فيها. ولكي يكون المواطن أكثر إنتاجية لا بد وان يجد مؤسسات مساعدة، وهنا يأتي دور الحكومة.
وإذا نظرنا الى الحكومة انها وحدة تعمل، فان ما ينطبق على الأشخاص العاديين ينطبق على الحكومة. ومن الناحية الأخرى إذا قيل ان الحكومة في اية دولة هي اقوى وأكبر واغنى الوحدات التي توجد في الدولة، لان الفرد العادي هو فرد واحد، لكن الحكومة مكونة من عشرات الآلاف من الافراد. ومن هذا فان مسؤولية التنمية البشرية تقع بالدرجة الأولى على المواطن وبالدرجة الثانية على الحكومة. ان تحقيق التنمية الاقتصادية لن يكون في سؤال كل منا عن حقوقه، وهل حصل عليها كاملة، وانما في سؤال كل منا عن مسؤولياته وهل قام بها.
ان تحقيق التنمية الاقتصادية لن يكون في انتظارنا ان تفعل الدولة كل شيء وانما في المبادرة بالعمل وتدعيم ما تفعله الدولة. فالتنمية الاقتصادية تحدث عند شعور الوحدات الموجودة في المجتمع بواجبها وقيامها به على اتم وجه. وتعتمد على اخلاص كل وحدة في المجتمع في أدائها وعملها، وفي القيام بمسؤولياتها. فقد تبني المدارس ولكن لا يؤدي المدرس واجبه. وقد تبني المستشفيات ثم لا يقوم الطبيب او الممرض بواجبه. وقد تبني الطرق ثم لا يقوم السائق بالحفاظ عليها او يتهاون المسؤول عن صيانتها بواجبه. فالتنمية الاقتصادية هدف علينا جميعاً ان نسعى لتحقيقه، ومن البلاهة ان يحاول كل منا ان يلقي اللوم على الآخر. وتدل كل التجارب التاريخية ان التنمية الاقتصادية تتحقق بتضافر الجهود نحو تحقيقها. فبريطانيا دولة عظمى ولم تستورد خبراء هندسيين او اقتصاديين، كما انها لم تستورد المكائن والمعدات. لقد نمت بفضل الجهود التي بذلت من قبل الجميع، وهذا الامر ينطبق ايضاً على الولايات المتحدة واليابان وبعض دول اوربا الغربية التي نمت مستفيدة من تجارب السابقين وبجهود أبنائها وليس بالموارد الطبيعة. ففي الولايات المتحدة تم بناء الانفاق تحت الأرض قبل اختراع الآلات الخاصة بالحفر، ومدت السكك الحديدية قبل ان تخترع الآت الرفع. ان المواطن هو الذي بنى ورفع وحفر.
ليس رأس المال هو العامل الوحيد والحاسم في التنمية الاقتصادية فقد يتحول الى عبئاً في حال عدم استثماره بشكل صحيح، وتجارب الدول المتخلفة خير مثال على ذلك، فبعض الدول المتخلفة اعتقدت ان التنمية الاقتصادية تتحقق فقط من خلال بناء المطارات والسدود والمصانع ولكنها فشلت لانها اهتمت بالمظهر فقط واهملت الجوهر.
فرأس المال يحتاج الى خبرة فنية وإدارية لاجل استخدامه بشكل صحيح ومستدام، ويجب ان يرافقها رغبة اكيدة من أبناء البلد الراغب في التنمية الاقتصادية، وبالتالي فان استيراد فلسفة التنمية الاقتصادية من الخارج هي واحدة من اكبر الأخطاء التي حصلت في بلدان العالم الثالث، فراس المال والخبرة يمكن استيرادها لكن الاطار الفلسفي لها يجب ان تكون من داخل المجتمع حصراً، فلقد نمت بريطانيا بالتجارة ونمت اليابان بالإقطاع.
ولأجل وضع فلسفة التنمية الاقتصادية للعراق يجب ان تنبع من اعتبارات خاصة منها اننا دولة لها عادات وتقاليد خاصة بتراثنا العربي والاسلامي، ونحن لسنا دولة زراعية او تجارية او رعوية فحسب، والهيكل الاقتصادي للعراق له مميزاته وله سيئاته، وقبل هذا له شخصيته المستقلة وهو يقوم على مزيد من أنواع عديدة من الأنشطة الاقتصادية.